الثلاثاء، 8 أبريل 2014

المحور الثالث ، المركز الرابع

المقالات المشاركة في مسابقة سنبصم فكرًا



المحور الثالث : "الفجوة الفكرية بين الأجيال" مفهوماً و مظاهر و آثار و حلول

صاحب المقال الفائز بالمركز الرابع في المحور : سمية نبيه عزّام_ لبنان



المقال :
اختلاف الرؤى... والهويّة في الاختلاف



تتبدّى الذات الإنسانية تراكمَ تجارب وتكوّنَ خبراتٍ؛ فالإنسان هو المعني الأول والأخير بكل أشكال التطوّر والتنمية. وإذ تتكشّف العلاقة جدليّةً بين الفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه ويتفاعل مع الآخرين من خلاله، فإنّ المنظومة الفكرية والعَقَديّة وتجلّياتها السلوكية والتعبيريّة للأمة "ليست وليدة مرحلة من المراحل، إنما هي نتيجة التفاعل والوعي المتبادل عبر القرون" كما يرى عبد العزيز المقالح.

كما الأصابع لا تتطابق بصماتها بين إنسان وآخرَ، الحال مماثلة في "البصمات الفكرية" للجماعات البشرية، وللأفراد داخل كل مجتمع. كيف إذا ما كانت العناصر المشكّلة للمجتمع متباينةَ الأعمار، متفاوتة الخبرات؟!

يدعونا هذا التباين وذاك التفاوت إلى رصد ظاهرة "التباعد" أو ما يسمّى "الفجوة" بين الأجيال المتعاقبة على مستوى الأحلام/الرؤى، وتالياً السلوكات/أنماط العيش؛ انطلاقاً من تأصيل المفاهيم.


تأصيل المفاهيم:

الجيل لغةً، القرن من الزمان. ويتوسّع فيه فيُطلق على أهل الزمان الواحد. واصطلاحاً، يطلق لفظ جيل على فئة عمرية تمتدّ من عقدين إلى ثلاثة عقود؛ فنقول جيل الآباء وجيل الأبناء...

مفهوم الاختلاف الرؤيوي بين الأجيال:

يلفت ابن خلدون إلى "أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نِحلتهم من المعاش."

تعريف الاختلاف يشرّع الباب على البحث عن العمق خلف الظاهر في أسئلة الهوية الثقافية للجماعة/الأمة، ومعنى الذات الفردية والجماعية.

من هنا، نستند إلى تعريف الجرجاني للهوية "بوصفها الأمر المتعقّل من حيث امتيازه عن الأغيار". والتمايز هو الاختلاف، وفي الاختلاف رسم لمعالم الهوية.

على أن الأزمات التي تتعرّض لها الأمة، والتحولات الكبرى تبرز إشكالية العلاقة بين الأجيال، لأنها تطرح أسئلة الهوية والمصير وموقع الذات مما يحصُل حولها في العالم. فالهوية الثقافية متحوّلة لأنها مرتبطة بالمجال المعرفي، والإنسان هو مجال المعرفة. هذه الإشكالية تَبين على مستوى الرؤية إلى الإنسان، وأشكال التعبير عنه، وأنماط السلوك. ذلك،على غير صعيد، منها التربوي والاجتماعي والفنّي/التعبيري.



تجلّيات إشكالية الاختلاف بين الأجيال:

لعلّ أي تغيُّر يطرأ على الحياة من شأنه أن يبدّل نظرتنا إلى الأشياء؛ بل يؤكّد سعيد تقي الدين على أنّ "سنّة الحياة هي التغيير والتبدّل". والحال، فإن الإنسان هو في حالة تكوّن وتطور دائمين، ما ينسحب على مجموع أفكاره. من هنا، نجد فهم أولادنا لمظاهر الحياة يختلف عن فهمنا، كما كان فهمنا يتباين مع فهم آبائنا، والسلسلة تتكرّر حلقاتها إذا ما تتبّعناها نحو الوراء، أو تقدّمنا بها إلى الأمام. غير أن التباعد يتزايد في عصرنا الحالي بين الأجيال، متّخذاً، لدى الناشئة، شكل التمرّد وعدم الانصياع لنواهي الأكبر سنّاً وتعاليمهم، والذي نلفاه في المدارس والجامعات ولدى الأُسَر. وفي المقابل، تتكاثر الاتهامات من جيل القيّمين على تربية الجيل الحالي من أهل ومعلّمين بوصفهم بالتعنّت والسفاهة واللامبالاة وغرابة الأطوار وقلّة الخبرة في أمور الحياة الفطريّة... بيد أننا نسمع أوصافاً إيجابية بأن هذا الجيل أشدّ ذكاءً وأسرع تعرّفاً بمقتضيات عصره منا- نحن- فهذا زمنهم.

هذا الوصف الصادر عن الجيل السابق يقابله وصف من الجيل الحالي، إذا صحّ التعبير، يتّهم به من سبقه بالجهل بمتطلبات العصر وحقوق الإنسان وعلى رأسها الحرية، وبرفض الانفتاح. نحن إذاً، أمام فئتين وتوجّهين.

مطلب كل جيل أو فئة:

أ‌- على الصعيد التربوي- الاجتماعي:

جيل الآباء: إن الجيل السابق يتمسّك بموروثاته الاجتماعية والدينيّة والقيميّة والسلوكية، ويبتغي توريثها للجيل التالي، بل للأجيال اللاحقة منطلقاً من مركزية تفوّقه – كما يرى- المتمثّلة بأسبقيّة تجاربه ووجوده على قاعدة المثل القائل: "أكبر منك بيوم أخبر منك بسنة". فضلاً عن الحرص على جيل يعتبر نفسه مسؤولاً عن إنباته وتوجيه مساره الوجهة التي يراها ملائمة وفقَ مفاهيمه. فلا مفرّ من أن يفرض الأهل الطاعة على أبنائهم.

جيل الأبناء: الفئات العمريّة الشابة هي الأكثر تفاعلاً مع الحاضر ومعطياته بكل ما ينتجه من علوم ووسائل معرفة واتّصال. يرغبون في الحرية حتى الانفلات والعصيان؛ غايتهم تيسير العيش وتأكيد الذات وحقهم في خصوصية تجربتهم ومغايرة نمط حياتهم المُتَمَوفِقَة مع منتجات عصرهم.

ب‌- على صعيد التعبير الفنّي:

القدماء وفئة المتمسّكين بالقديم:

يطبّق القدماء معاييرهم القيميّة والنقدية على التمثيلات التعبيريّة الشابة، فيعمّمون ذائقتهم الفنّية بوصفها الأمثل. تصف نازك الملائكة محاولات نبذ المجتمعات الإنسانية لكل جديد عبر التاريخ "ومقابلة التجديد في كثير من الريبة والتحفظ"، بإعطاء الذريعة في قولها:" إن التحفّظ صوت التماسك والأصالة في شخصية الأمة. بهذا التحفُّظ تحفَظ الأمة تراثها.. وهو ضرب من ضروب الدفاع عن النفس".

جيل الشباب وفئة المجدّدين:

ينتقد جبران خليل جبران المقلّد واصفاً إيّاه بأنه" لا يحيد عن الطريق التي سار عليها ألف قافلة مخافة أن يتيه... فتظل حياته كرجع الصدى.."؛ كما تلفت الملائكة إلى "أن حركات التجديد كلها محاولات لإحداث توازن جديد في موقف الفرد والأمة... والتجديد هو حاجة ملزمة تفرض نفسها."

غير أن المراقب يسأل: هل يتّخذ الاختلاف المفهومي بين الأجيال مظهراً واحداً بين المجتمعات، أم أنه يتفاوت حِدّةً من مجتمع إلى آخر؟ وما الأسباب الداعية، تالياً، إلى ازدياد حدة هذا الشقاق؟ أسئلة تأخذنا إلى عقد المقارنات بين مجتمعنا العربي، على سبيل المثال، ومجتمع ذهب في مجالات التطور العلمي والنماء البشري أشواطاً بعيدة.

تبرز إشكالية تعميم التجربة الذاتية للجيل الأسبق على الجيل الحالي أكثر جلاءً في المجتمعات التي تفتقد آليات الحوار ولزومه، فتحتكم إلى التسلّط. وهي بالعموم المجتمعات المنغلقة على ذاتها، التي يشدّها العصب العائلي أوالقبلي، والمتّسمة بنظام ثقافي تراكمي تكريري إحيائي؛ على غرار بعض المجتمعات العربية.

على أن الأمر يكاد يختلف في المجتمعات الأكثر انفتاحاً على متطلّبات التطور، وتفهّماً لحاجات جيل الشباب ومشاكلهم وآليات تفكيرهم؛ فتتكشّف هذه العلاقة أقلَ حدةً؛ إذ إنها مرهونة بوعي الحقوق المدنية والواجبات، وفهم سيرورة الحياة.

على ضوء ما تقدّم، تبرز مأزومية العلاقة بين الأجيال في مجتمعاتنا العربية منذ بضعة عقود لاتّساع مساحة التواصل الحضاري وتعدّد وسائطه التقنيّة وازدياد وتيرة سرعتها. حيث إن "التأثير الحضاري في هذا العصر غدا أعمّ وأنفذ مما كان في أي وقت مضى" على ما يقول قسطنطين زريق. هذا ما يحدونا إلى تتبّع الآثار للاختلاف بمَنحَييها الإيجابي والسالب.

الآثار:

الآثار الإيجابية للاختلاف الرؤيوي بين الأجيال:

يتمثّل الإيجاب في أن "الصراع قوة مولّدة للكائن يحفظه في ثبات كينونته. وهو حالة حاضرة على الدوام في كل كائن". على ما يرى هيرقليطس. وما يصح في الكائن يسري على المجتمع بوصفه كِياناً. ويتابع الفيلسوف الإغريقي أن "كل شيء يسيل، السيلان ليس تدميراً سلبياً، إنما هو سيلان المتناقضات".

ويذهب الإمام الشافعي، في السياق المفهومي التغييري نفسه، في قوله:

إنّي رأيتُ وقوفَ الماء يفسدُه إن سالَ طابَ وإن لم يسِلْ لم يطِبِ

إذاً، التعدّدية المفهومية والتنوع قوّة للمجتمع شرط ألاّ يفقده توازنه وتماسكه، وباعتماد حرية التعبير حقاً مشروعاً. ينسحب تالياً، الأمر على الأدب والنقد وأنواع الفنون عموماً؛ إذ إن من البديهي أن تختلف معايير الحكم والنقد من جيل إلى آخر، على ما يوضّح عباس محمود العقّاد في أن" تشعّب مقاييس الأدب مزيّة لا عيب لأنه آتٍ من اتّساع مجالها ومشابهتها للحياة في أنها نامية متحركة مضطربة ومتحوّلة..."

الآثار السالبة:

إنما الخوف من التغيير على الآتي من الأيام يرتهن لجهلنا بضرورته؛ ما يفضي إلى أزمةَ حوار ومأزقية تفاعل بين الأجيال في المجتمع الواحد. فكل خطاب فكري لا تستجيب فيه مفاهيمه وتطلعاته للواقع ومعطياته يسقط نتيجة انفصاله عن الوقائع.

الرفض المتبادل: هو العنوان الأبرز للآثار السلبية، ما يؤدي إلى انفصال أو قطع معرفي في أقصى حالاته؛ فينعكس حسرةً لدى جيل الأباء وخوفاً على المستقبل، وعنفاً أسريّاً ينمّ عن برنامج إكراهي للعمل بمشيئة الأكبر سنّاً، والأعلى مقاماً ومحاولة التدجين؛ كما يؤدي إلى محاولات هروب للأبناء واقعياً، من ربقة الأهل، أو حُلمياً باللجوء إلى العزلة المتجلّية في حالة الاغتراب الداخلي والهُجنة والعبَثية؛ ما يترك آثاراً سلبية على المحاصيل الثقافية للمجتمع.

كيف السبيل إلى تضييق الفجوة بين الأجيال على مستوى المنظومة الفكرية وتمثّلاتها؟ تصوّرات حلول:

"إن اكتشاف الحل لمشكلة قديمة يعدل اكتشاف مشكلة جديدة". وهذه الظاهرة ليست طارئة. فقد رأى ابن قتيبة، في سالف الأوان، إلى إشكالية القديم والمحدَث- على صعيد التعبير الأدبي- مسقطاً مفهوم الزمن، داعياً إلى "النظر بعين الإنصاف إلى القديم والمحدّث، لأن الحق يفرض ألاّ يدفع إحسان محسن، قديماً كان أم محدَثاَ، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع." ..."الله جعل كل قديم حديثاً في عصره، وكل شرف خارجيّة في أوّله."

الخروج من مأزومية العلاقة الفكرية / الرؤيويّة بين الأجيال السابقة والتالية في عالمنا العربي، يبدأ من مساءلة الواقع عبر طرحنا الأسئلةَ الآتية: أي المفاهيم ينبغي لنا أن نبقي عليها؟ وما الذي علينا أن ننتخبَه من الماضي كي يستمر في المستقبل؟

التفت جبران إلى هذه المسألة عبر مخاطبته جيل الآباء قائلاً:" أنتم تستطيعون أن تعطوا أولادكم محبتكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تلقّنوهم أفكاركم... لكم أن تكونوا مثلهم، وليس لكم أن تجعلوهم مثلكم. الحياة لا تمشي القهقرى."

وقد اجتُرحت نظريات نمائيّة لمفكّرينا العرب تسهم في تضييق هذه الفجوة، على قاعدة التوفيق بين الثقافتين: التكوينيّة والتمكينيّة للذات؛ فتكوين الذات يتمثّل في الأخذ من التراث والثقافة الذاتية للأمة، وتمكينها يحصُل من طريق التفاعل مع الثقافات الأخرى، فترفدها بآفاق جديدة. حيث إن في الانكماش والتقوقع قتل للممكن ولدينامية الحاضر في الهوية الثقافية؛ وفي الاستتباع بتر للأصول وهُجنة واستلاب. والوعي بأن تكون الاختلافات مدعاة اعتراف، ما يؤدي إلى التفاهم وليس الاصطدام؛ وإدراك سيرورة التحولات بأنها مرهونة بالحريات. من هنا، ضرورة ترسيخ مفهومَي "حق الاختيار" و"مشروعية الاختلاف" قاعدة تحتكم إليها الفئات المجتمعية. كما يذهب، أيضاً، نبيل علي بطرحه "بأن تجديد نظام القيم ينبعث في شكل يتلاءم مع المتغيرات الاجتماعية المتوقّعة".

نستلّ تشبيهاً للحالة الفكرية للأمة من الشجرة، إذا ما رمزنا بالجذور إلى التراث وبالفروع إلى الروافد، فإن أي قطع للجذور أو الفروع يُصيب المنظومة الفكرية بالتحطُّب.

من الأهمية بمكان استذكار طرح الفيلسوف التأويلي ه. ج. غادامير في تعبيره عن انصهار الآفاق: أفق التجربة التي تنحو نحو الماضي، وأفق التوقّع ذي الاتجاه المستقبلي فيتأتّى لنا فهم ذاتنا وفهم الآخر، لاسيما فهم ظاهرة الاختلاف وضرورتها؛ فتشكّل الأجيال المتلاحقة حلقات تواصل واتصال لواقع آفل يكون مختبر الزمن الآتي المُبدي لكل التقلبات الممكنة.


وخير دليل على انطلاقتنا "التكوينيّة" من ميراثنا الثقافي استنادُنا إلى مقولة تختزل ما نرمي إليه في مقالتنا؛ وهي للإمام علي (ر): "لا تقسروا أبناءكم على أخلاقكم، إنهم خُلقوا لزمن غير زمنكم."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق