الأحد، 4 مايو 2014

مقالات متنوعة

المقالات المشاركة في مسابقة سنبصم فكرًا


صاحب المقال : مبارك بن خميس بن مبارك الحمداني



المقال :

المثقف الميديائي الجديد (الممكن الفكري , وأصنام النظرية)


توطئة : بين مثقف الأزمة,وأزمة المثقف:

ما إن توهج حراك الربيع على ضفاف الدول التي إلتهبت فيها شرارة الثورة,أو تلك التي لهفت حميمها,حتى تبادر إلى الإستدعاء ثمة تساؤل رئيس منبثق من صورة تكوينية في خطاب الثورة,خطها تاريخ الثورات الإنسانية وحتمتها نماذجها,وأطرتها أسس الرهانات الاجتماعية,وهو سؤال المثقف العربي وفاعليته في سياق الأزمة وتوجيه مسارات الأحداث.يقول المؤلف د.زكريا المحرمي في كتابه الموسوم “استئناف التاريخ”:كان المناخ العام في العالم العربي وبحسب آراء المفكرين والمثقفين العرب مشحونا ضد المثقف,فالكل يكيل له التهم ويوجه له الضربات,بيد أن المثقف العربي لم يتلق ضربة موجعة كتلك التي وجهتها له ثورات الربيع العربي,فقد خلقت تلك الثورات حالة من شبه الإجماع على أن المثقف كائن خارج الزمان,وتمثلت الضربة القاضية في إتهام المثقف بأنه أحد سدنة حالة الجمود السياسي والاجتماعي التي عشش فيها الاستبداد واستفحل…”[1]


المثقف الجديد , الرهانات والإنجازات:

غير أننا نلحظ أنه وعلاوة على أن الثورات العربية فقد فككت بنية الخلل في قارعة المشهد الثقافي عموما,فإنها بالمقابل قد خلقت على الساحة ثمة لاعبين جدد,من الأجيال الجديدة الصاعدة،استطاعوا هدم أصنام النظرية وتعريتها,ورفض الكائنات الثقافية التراثية ومقتها,واستلهام منطق العصر ولغته وإجادتها, قد فاجأوا العرب والعالم بخلقهم وقائع ومعطيات سياسية واستراتيجية غيّرت علاقات القوة وقواعد اللعبة،هؤلاء لم يأتوا من رحم كتب ابن خلدون ذات الصبغة الحتمية,أو دندنة أغاني وهتافات القومية العربية,أو حشد عاطفة المنابر الإسلاموية, فقد جاءوا من رحم الكتب الرقمية,والجلسات النقاشية الإفتراضية,والمقاهي الفكرية الإلكترونية,التي كانت الصبغة التي تصبغها هي صبغة التفكيك المستمر للمقولات والشعارات والمشاهد والهتافات والنماذج والقوالب,لقد أصبح في كل شخص منهم “كائن تفكيكي صغير” يقرأ التحولات ويحاكمها بالمفاهيم,يستطرد التغيرات ويقيسها وفقا لمنظومة القيم.وليست فضاءات التواصل الاجتماعي سوى نطاقاً فاعلاً وشاهداً على ذلك, فما أنتجته من حورات وما فاض على تغريداتها من رؤى وأفكار ومحددات,وما تُطُرِق إليه في منشوراتها من قراءات لم يستطع المثقف العربي محاكاة واقعيته,والأدهى من ذلك أن أصنام النظرية من المثقفين,وعبدة القوالب والتفسيرات الجاهزة من المفكرين,أصبحوا اليوم يماهون هؤلاء اللاعبون الجدد على ساحة المشهد الفكري والثقافي,ويميعون بالقول أنهم أبناء “ثقافة الصورة والتغريدة” و”أصحاب النفس الفكري قصير الأجل”,وغيرها من تجليات (عقدة النقص,وعقيدة النقص),التي استثارت في جماجم المثقفين الكلاسيكيين ليس نتيجة عدم جدوى أطروحاتهم التراثية الجمودية,وإنما نتيجة أن (بساط الكاريزما) الذي لطالموا سرحوا ومرحوا على شرفاته بات ينسحب من تحت أرجلهم يوما بعد يوما,وذلك نتاج طبيعي بداهي لإن ما تعنايه المجتمعات المعاصرة اليوم من الأزمات المتلاحقة والمشكلات المزمنة, يشهد يوما بعد يوم على أن الأزمة إنما تكمن بالدرجة الأولى في العقول والأفكار,حيث أن الخطاب الفكري العربي ظل وعبر عقود طويلة يحوك مجابهة التحديات القارعة في المجتمعات العربية بنفس العقلية والعدد الفكرية,مما أنتج المزيد من الأفخاخ وألهب العديد من العوائق.



سر البروز,وبروز السر:

إن مكمن السر في سطوة هؤلاء اللاعبون الجدد,أنهم احسنوا إستغلال الأدوات التي أتيحت لهم,ومكنوا ذواتهم من إمتلاك الوسائل بفاعلية في صيرورة مشهد واقعهم,وعلى ضوء ذلك فإن هذه الوسائل مكّنت الأفكار من التكاثر والانتشار بطريقة لم تشهد الإنسانية مثلها من قبل.ولذلك،تجد كثيراً من المُفكرين التقليديين مُربَكين،وكثيراً من الأفكار والأطروحات والإيديولوجيات التي ظن أصحابها بأنها باقية قد أُحبِطَت وصارت محط نقد وتهكّم وإهمال من الناس.وفي مقابل هذه الفئة،برزت رموز جديدة ترفض صفة النخبة،لإنها أدركت ثمالة النخبة وهشاشتها في مقارعة الواقع,وفي ذلك دلالة وتأكيد على ما قاله المفكر السعودي عبدالله الغذامي قبل سنوات في كتابه “الثقافة التلفزيونية” حين قال:“إن سقوط النخبة أدى إلى سقوط الوصاية التقليدية ورموز الثقافة التقليديين الذين كانوا يحتكرون الحق في التأويل وإنتاج الدلالات..!”[2]، فكلام النخبة وكتاباتهم ولقاءاتهم التلفزيونية لم تعد اليوم تُغري الناس كما في السابق.


هوية المثقف الجديد:

وقد كتبت ذات مرة قائلا:إن ثمة مثقف جديد تمخض من رحم الثورات العربية,وذلك أبلغ درجات الغنيمة,مثقف لم يعد قابلا للوضع في القوالب,وإنما ينطلق من أطر الصراع الكامن بدواخله وهو يجابه فوضى التناقضات التي تعايشها مجتمعاته العربية,بين أدلجة الدين,وقولبه السياسية,وسدنة الإعلام للسلطة,وبين الفشل الذريع في اختبارات الحضارة الثلاث المتوالية: “الديموقراطية, التنمية, المعرفة”.ولكن يبقى الرهان أمام المجتمعات العربية في الآلية التي تستثمر بها هذه الطاقات الخلاقة من المنتجين للأفكار والخالقين للرؤى والمبدعين لتكسير سطوة المفاهيم, والعاملين على قراءة التحولات بمنطقية أكبر,ويبقى الرهان أيضا على تبنه هؤلاء الفاعليين الثقافيين الجدد على الخطوط العريضة,والأدوات الرصينة,والعدد الفكرية الفاعلة التي يجب عليهم نهجها لقراءة التحولات,وتفنيد الأزمات,والإشتغلال بعقلية الناقد المنهجي والمحلل الموضوعي الواقعي.

وفي تقديري أن المثقف الميديائي العربي الجديد عليه أن ينطلق من مقاربة ذات النموذج في تحليل مختلف الأزمات والقضايا,وفي تحليل أنظمة الخطاب,ومولدات الشقاق. وهو نموذج البحث في المنطق المعرفي الذي ترتكز عليها هذه الأزمات بوصفها إفرازاً ومفرزا لأنساق معرفية بشرية تاريخية.


المثقف الجديد ورهان الفاعلية:

إن رهان الفاعلية لأي نسق فكري ومنظومة دفعه في السياق المجتمعي لآفاق التحديث والتطوير ومعالجة الأزمات إنما ينطلق من بينة التفكير الحيوي الفعال الذي يبتكر ويجدد بالتحرر من الضوابط التي يتقيد بها حراس النظرية وحماة العقيدة والمدافعون عن الهوية,وهو كذلك تكمن فاعليته في خرق القواعد والمعايير التي يلتزم بها أصحاب المدارس,وبناة النماذج وهواة التأصيل والتأسيس. إن الإنتاج الفكري الرصين هو الإنتاج الذي يبتدع المفاهيم ويغير الأولويات ويرسخ منظومة فكرية جديدة تساهم في فضح وتعرية الأنساق الثقافية السائدة,ومنظومات القيم التقليدية الرثة,وكشف ممارسات التجهيل والتعمية والتزيف واستلاب العقل والترهيب والطغيان,التي تمارس من قبل السطات في قطاعات المجتمع المخلتفة,سواء أكانت سياسية أم دينية. ثقافية أم إجتماعية.ولعل هذه المقاربة تدفعنا أكثر للتفاؤل بما تمخض عن الخريف العربي من نماذج ثقافية.فالانتقال من نموذج المثقف النخبوي نحو (نموذج المثقف الميديائي الجديد)[3] يجلعنا إزاء فاعل جديد أحدث ما فاق التصور،إذ فتح الإمكان لتحويل الخوف إلى جرأة،والقيد إلى حرية،والجهل إلى معرفة،والعجز إلى قدرة.وهذا الإنتقال ذاته أيضا قد كسر منطق “المنظومة” الأيديولوجية الحديدية التي تشتغل بالقولبة والتطويع والتدجين أو بالشحن والتعبئة،بقدر ما تعمل بعقلية الاتهام والإدانة والاستبعاد أو الاعتقال.

مكمن القيمة:

كل ذلك أفرزته قيمة وجودية حملها هؤلاء الفاعلين الثقافيين الجدد تمثلت في الرغبة الجامحة في التحرر والانتقال من عالم الماهيات المتعالية والهويات الثابتة والحقائق الجاهزة التي كان يلتحف بها الخطاب الفكري اللافاعل العربي نحو إدارة الواقع وحل مشكلاته أو تسييره وتطويره،بلغة التحويل الخلاق والتركيب البناء والتفاعل المثمر.فمن لا يخلق ويبتكر يخفق ويخسر قضيته أو ينتج مأزقه.


لقد أصبح من السذاجة بمكان تهميش المثقف الميديائي العربي الجديد,أو تهميش أسطورة الجيل والفئة التي تمخضت من رحم منطق العصر,إنها فئة ثائرة،لا تتعايش مع القيود والأعراف،وترفع شعارات حُرية تعبير،والهوية الكونية،وتعترف بأن ما تقدمه ليس ذا نفع أو فائدة,لكنها في المقام ذاته تؤمن بضرورة وجوده وطرحه لإن تعريات وتجليات مثل هذه الحادثة في الفضاء الإلكتروني تلهم المجتمع بأطيافه كشف الستار عن مساوئه وعيوبه,محاسنه وإمكاناته.إلا أن الناس تتابع،وتتفاعل،وتشتم،وتمدح،وأعداد المتابعين والمتأثرين تزداد كل يوم.وكل تلك ظواهر صحية بحتة لا يمكن نفي أهميتها في خلق نخبة جديدة من المرجح أن تكون فاعلة,وتدحض شيخوخة النظم الثقافية ومرتادي الأبراج العاجية,والهائمين في عبادة أصنام النظرية.


ومن ناحية أخرى،فإن هذه الطبقة الثائرة،الرافضة،المتسائلة،المُطلعة على تقنيات العصر وآخر صيحات الموضة،تتقاسم مع أقرانها في مختلف أصقاع العالم كثيراً من هذه المشتركات،ما يجعل الصفات التي ذكرتها تَغرِس جذورها في ثقافة المجتمع أكثر،ولكن يبقى الرهان الأكبر من ذلك في ثلاث قيم رئيسية يجب أن تتحلى بها هذه الفئة من المثقفين الميديائيين العرب الجدد تتجلى فيما يلي:

أولا:إذا كانت هناك ثابت أساسي وقيمة عليا يجب الدفاع عنها والتمسك بها,فهي ممارسة الحرية في التفكير بعيدا عن أي إكراه مادي أو ضغط معنوي,وما تعنيه هذه الحرية هي إمكانية التفكير في كل أمر,بصورة نقدية تتيح التفكيك لما يستوطن في عقل الفرد ذاته أولا من البنى والنماذج والآليات التي تحول دون فهم الأحداث أو عقلنة التجارب والممارسات.

ثانيا: أول ما يجب الإنطلاق منه هو قيمة مصارحة الذات,ويتجلى ذلك بهتك البداهات والعادات الذهنية الراسخة والمسلمات الفكرية المحتجبة,التي تحول دون أن يفهم الكائن المفكر ما يصله بالعالم,أو ما يتوسط بينه وبين نفسه من العقائد والمدارس واللغات وأنساق التواصل والبنى الثقافية والمجتمعية والنظم والمؤسسات.

ثالثا: أن لا يشرع المثقف الميديائي العربي الجديد عقله على نحو من قبله,وأن لا يرسم الحدود لفكره بصورة مسبقة,باختصار أن لا يقيم سورا محكما يسور به ذاته وهويته بالمقولات والنظريات والمناهج,بالعكس ما عليه فعله في ظل مخاضات العالم الجديد والمنطق الفريد,أن يعمل على إبقاء الأبواب مشرعة أمام العقل,لتعرية المهام والممارسات,والألاعيب التي تطمس مهمة التفكير أو تعيق طاقة الإبتكار والإثراء والتجديد.


إننا في أمس الحاجة اليوم أيضا إلى أن يخرج من رحم هؤلاء المثقفين الميديائيين الجدد ناقدين ماهرين,يمارسون النقد بحيوية وفاعلية،بحيث تكون القيمة الأسمى لكل ناقد منهم هي عشق الإثراء والإبتكار والتوسيع لما سبق إنتاجه داخل النسق,وأن يمارس تحقيق ذاته على عكس ما يفعله مثقفون ومفكرون ينطلقون من أفكارهم الجاهزة أو نظرياتهم المستهلكة،حول الإنسانية أو الديمقراطية أو الحرية أو الثورة،لكي يحاكموا الواقع الحي والنابض،أو المتوتر والمضطرم،فإذا بالوقائع ترتد ضدهم وتفاجئهم بانفجاراتها وتحولاتها.


خاتمة:
خلاصة القول في هذا السياق,إننا لابد أن نعي أن الممكن الفكري في قراءة ما يحدث يختلف عن الممتنع القولبي في قراءته،فالممكن الفكري ليس التفكير وفقاً لنماذج أو ثوابت تعامل كأصنام أو أيقونات،بل الإنخراط في صناعة الواقع،بخلق وقائع تخرق الحدود المرسومة والشروط الموضوعة،بقدر ما تكسر القوالب الجامدة والنماذج المستهلكة،التي تشل طاقة الفكر على ابتكار الحلول بصورة غير مسبوقة ولا متوقعة.

ولنخطها قاعدة أساسية,إننا نتغير بقدر ما نعمل وننتج,ونغير الواقع بقدر ما نخلق من وقائع تسهم في تغيير خريطته في كل مجال من مجالاته,لا بتمجيد الأسلاف,أو تقديس الموروث النظري وإحترام القوالب الجاهزة والأحكام المنمطة



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المحرمي, زكريا : استئناف التاريخ: المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر , مسعى للنشر والتوزيع , 2013
[2] الغذامي, عبدالله : الثقافة التلفزيونية : سقوط النخبة وبروز الشعبي , المركز الثقافي العربي , 2004
[3] المثقف الميديائي:نسبة إلى الميديائية (الإعلامية),وأقصد به المثقف الذي يتوافر على وسائط ومواقع التواصل الاجتماعي ويتسثمرها لخدمة المناقشات والتحليلات ومختلف أشكال الطرح الثقافي والفكري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق